يدرك الجميع أنّ "​التيار الوطني الحر​" كان سبّاقًا في التحضير للانتخابات النيابية، حين كانت باقي القوى السياسية، الحزبية والمستقلة، إما في سباتٍ عميق، أو تراهن على تمديدٍ جديدٍ للمجلس النيابي، وبالتالي على تطيير الانتخابات النيابية.

استبق "التيار" إقرار ​قانون الانتخاب​ الجديد ليطلق آليّة غير مسبوقة في العمل الحزبيّ في لبنان لاختيار مرشحيه تقوم على ثلاث مراحل مختلفة يتنافس فيها "الرفاق" لكسب ترف "الترشيح" في النهاية، استنادًا على الأرقام والإحصاءات قبل كلّ شيء.

نجح "التيار" في التنظيم، وأوحى أنّه جاهزٌ للانتخابات، قبل أن يبدأ عدّها العكسيّ، وقبل أن تضيق المهل. ولكن، عندما دقّت ساعة الجدّ، يبدو الواقع مغايرًا، بل إنّ "التيار" يكاد يكون من "قلّةٍ" لم تحسم، أو على الأقلّ لم تعلن حتى الآن أسماء مرشّحيها، فلماذا تحوّلت "أسبقيّته" إلى "تريّث"، بتعبيرٍ ملطّف؟!.

أزمات داخليّة؟!

لا يخشى "التيار الوطني الحر" الانتخابات النيابية. هذا ما يؤكده قياديّوه ومحازبوه ومناصروه في كلّ المناسبات. برأيهم، فإنّ "التيار" كان ولا يزال وسيبقى "الأول" على الساحة المسيحيّة، بل إنّ رصيده الشعبيّ، الذي تضاعف مع وصول مؤسّسه العماد ​ميشال عون​ إلى ​رئاسة الجمهورية​، يزداد يومًا بعد يوم. أكثر من ذلك، فإنّ كثيرين ممّن اعتقدوا أنّ وزير الخارجية ​جبران باسيل​ نقطة ضعف لـ"التيار"، لافتقاده "الكاريزما" المطلوبة، بدأوا يراجعون موقفهم، خصوصًا بعد الأزمة الأخيرة مع رئيس ​المجلس النيابي​ ​نبيه بري​، والتي تحوّلت بالنسبة للبعض من "نقمة" إلى "نعمة" على الساحة المسيحيّة.

ولكن، إذا كان الوضع كذلك، فلماذا يبدو "التيار" اليوم في الخلف انتخابيًا، وليس في الأمام؟ لماذا لم يطلق "التيار" حتى الآن ماكينته الانتخابيّة، على بعد شهرين ونصف من الانتخابات النيابية؟ ولماذا لم يحسم "التيار" أسماء مرشحيه، حتى على الصعيد الداخليّ، في ظلّ الحديث عن "نقمة" لدى بعض المحازبين، الذين لم يعرفوا حتى الآن ما إذا كانت القيادة ستتبنّى ترشيحهم أم لا، ليبنوا على الشيء مقتضاه؟!.

لا شكّ أن دوافع "التريّث" كثيرة، ولكنّ الأكيد أنّ على رأسها عوامل داخلية مرتبطة بتركيبة "التيار" وهيكليّته، في ظلّ كثرة "الطامحين" وربما "الطامعين" بلقب "سعادة النائب"، فضلاً عن رفض حاملي اللقب التنازل عنه بأيّ شكلٍ من الأشكال، ولعلّ "التمرّد" الذي بدأه بعض النواب "العونيّين" بمجرد أن اشتمّوا "رائحة" وجود نوايا لتغييرهم كافٍ للدلالة على هذا الوضع "الحرج". من هنا، يمكن القول إنّ قيادة "التيار" تتريّث في "الحسم"، وتدرس حساباتها بدقّة، خصوصًا لجهة الأصوات التفضيلية التي سيستطيع المرشحون حصدها، علمًا أنّها تتحسّب للأسوأ، وهي لم تنسَ بعد موجة "الاستقالات" و"الإقالات" على خلفيّاتٍ انتخابيّة، والتي، وإن حاولت التقليل من شأنها في وقتها، تركت ندوبًا لم ينتهِ مفعولها بعد.

وبالإضافة إلى ذلك، أتت الاهتزازات الداخلية التي شهدها "التيار" مؤخّرًا لتزيد الطين بلّة، خصوصًا مع بدء الحديث عن "صراع أجنحة" داخل أروقة "الوطني الحر"، وهي عبارة لطالما اعتمدها "العونيون" لانتقاد خصومهم، أو حتى لـ"الشماتة" بهم. ويمكن القول في هذا السياق إنّ رئيس "التيار" وزير الخارجيّة جبران باسيل كان حريصًا على أن تمرّ التعديلات على النظام الداخلي قبل حسم أسماء المرشحين، خصوصًا أنّ هذه التعديلات نصّبته مجدّدًا "الآمر الناهي" داخل "التيار"، وهو ما يعتقد أنّه يمنحه "حصانة إضافية" لمواجهة أيّ "هزّات" جديدة يمكن أن يسبّبها "امتعاض" البعض من عدم اختياره للترشيح.

التحالفات أولاً...

لكن، وأبعد من كلّ هذه التفاصيل والتعقيدات "الداخلية"، تبقى الإجابة الجاهزة لدى قياديّي "التيار" عند سؤالهم عن سبب "التريّث" في إعلان الترشيحات واحدة موحّدة، وهي "التحالفات أولاً". فبالنسبة لهؤلاء، حتى لو كان القانون الانتخابيّ يعطي مهلة أكبر لحسم التحالفات وتسجيل اللوائح من تسجيل الترشيحات الفردية أولاً، فإنّ بلورة التحالفات الانتخابيّة ونسجها هما الأساس، الذي تخضع له الترشيحات، على اعتبار أنّ التحالف مع هذا الفريق يتطلب استراتيجيّة ترشيح مختلفة عن التحالف مع ذاك الفريق.

بمعنى آخر، لا يعتبر "التيار" أنّ من المنطقي إعلان مرشّحٍ له عن مقعدٍ محدّد، ومن ثمّ التفاوض مع أفرقاء آخرين لديهم مرشحون عن هذا المقعد، ما سيسبّب "الإحراج" لكلا الفريقين، فضلاً عن الإحراج مع المرشح "الموعود" والذي سيتبخّر "حلمه" بين ليلةٍ وضُحاها. ولأنّ "التيار" عانى الأمرّين من هذا التصرّف مع أفرقاء آخرين، ولا سيما "​القوات اللبنانية​"، التي تسرّعت في إعلان بعض مرشّحيها، ما تسبّب في "التباعد" بينهما، فإنّه يسعى لحسم "التحالفات أولاً"، أو على الأقلّ بلورتها بشكلٍ واضحٍ، وإن بقي قابلاً للتعديل.

وعلى الرغم من أنّ "التيار" يسعى لتكريس منطق "التحالفات على القطعة" في مختلف الدوائر بصورةٍ أو بأخرى، لاعتقاده أنّه يصبّ في مصلحته في المحصّلة، على طريقة الشبك مع الجميع وعدم قطع شعرة معاوية مع أحد، فإنّه يحرص على ترك كلّ الاحتمالات من دون استثناء مفتوحة. فهو فتح خطوطًا مع "المستقبل"، وبات تحالفه معه في معظم الدوائر شبه نهائي ومحسوم، وإن كان لا يزال عالقًا عند بعض "التفاصيل"، ولكنّه في الوقت نفسه يحرص على عدم كسر الجرّة مع الثنائي الشيعي، وتحديدًا "​حزب الله​"، وهناك من يقول إنّه إما سيتّفق معه من تحت الطاولة على الافتراق الانتخابيّ، وإما سيسعى للتحالف معه ولو في عددٍ محدود من الدوائر للتأكيد على أنّ التحالف مستمرّ.

سيف ذو حدّين...

ليس "التيار الوطني الحر" وحده من يشهد "برودة انتخابية" في عزّ "الحماوة المفترضة". فحتى لو أطلقت بعض الأحزاب السياسية، كالثنائي الشيعي و"القوات اللبنانية" و"​حزب الكتائب​" ماكيناتها الانتخابيّة، وحتى لو كان بعضها، كـ"حزب الله" مثلاً، يستعدّ لإعلان أسماء المرشحين في كلّ لبنان، فإنّ معظم الأحزاب لا تزال "متريّثة".

إلا أنّ هذا "التريّث" يبقى سيفاً ذي حدّين، فهو كما قد يعني انتظار الأحزاب السياسية لربع الساعة الأخير لحسم أمرها، أو رغبتها ب​البناء​ على خيارات خصومها، فإنّه قد يعني في مكانٍ ما، عدم وجود جوّ انتخابيّ جدّي في البلد، وبالتالي "رهان" بعض القوى السياسية على تطيير الانتخابات في اللحظة الأخيرة، وهو رهانٌ يبقى موجودًا للأسف حتى إثبات العكس.

وإثبات العكس لا يتطلب سوى إقدام القوى السياسيّة، ومن دون إبطاء، لأنّ الوقت لم يعد في صالحها، بعدما انطلقت ​الحملات الانتخابية​ بشكلٍ رسميّ، بل إنّ أقلّ من عشرين يومًا تفصل عن موعد إقفال باب الترشيح...